برلين ليست مجرد مدينة يعبرها المرء، أو يأتي إليها سائحاً، ثم يدير خطاه ليفارقها.
هناك عبق ما في هذه المدينة يعلق في النفس والروح،ليس من السهل وصفه، لكن بالتأكيد كل من زار هذه المدينة يشعر بما أقصد.
منذ قرابة الأربع أعوام أتيت إليها ومازلت متعجباً بحجم التناقض في جنباتها. يتوزع الفقراء والمشردين في زواياها وساحاتهاوكذلك ميسوري الحال، ترى بساطة الناس فس كل شئ في ملبسهم و مركبهم وفي طعامهم بوجوههم المطمئنة والراضيةوكذلك ترى التجهم في بعض الوجوه التي تنذر بإفتعال المشاكل لا سيما في محطات القطار النفقي.
تنتشر فيها ورشات الهدم والبناء، وكذلك بعض الأحياء بمبانيا القديمة شاهدةً على أحداث مرت وتمر عليها حتى اليوم.
كما تلحظ الحداثة المبهرة في الكثير من أبنتيها وساحاتها تُشعر المرء بحضارة مدينة لا تهدأ حركتها، ومن جهة أخرى تغطي الأشجار والحدائق مساحات كبيرة من رقعتها.
لهول أُلفتها تحسبها صغيرة رغم أنها في المقياس العالمي من أكبر المدن. تزخر المدينة بالكثير من مناحي الحياة ومشاهدها بكافة المجالات، فيها حياة ليلة كاملة مما دعا البعض بتسميتها مدينة الليل لما ينتشر فيها من ملاه ونواد ليلية.
كما يتواجد فيها دور عبادة للأديان السماوية الثلاث ( المسيحية، الإسلام، اليهودية) بجانب من لا يؤمنون بأي ديانة من الملحدين اللادينيين. هي مدينة التسامح لما تعج به من أنماط تفكير وسلوك وحياة مختلفة، فتجتمع فيها كل التيارات السياسية والأحزاب ، وهي مدينة الحرية فبإمكان المرء أن يمارس حريته بأي شكل يناسبه طالما أنه لا يشكل أي إعتداء على الآخرين، ولا يمس بأمنهم و اطئنان مدينتهم.
بعد أكثر من عام من إقامتي فيها، غادرتها لزيارة أقرابائي في هولندا، وبرغم المدة القصيرة التي لم تتعدى الثلاث أو أربعة أيام فإذ بي أفتقدها. للوهلة الأولى لم أدر لماذا ! ولكن حين عدت إليها من جديد أحسست بألفة الهواء والوجوه والشوارع، شئ ما استقر في نفسي وقد كان غائباً.
أحياناً أشعر أن عبق دمشق وحاراتها يتجتمع عند بعض الزوايا في برلين، دمشق التي أمضيت فيها خمسين عاماً من حياتي ولم أغادرها طوال تلك الفترة إلا لأيام، كانت استقرار الروح في نفسي. اليوم دمشق مدينة ماعادت كسابق عهدها إذ تفتقد لروح المحبة والتسامح، ووجهها البريء الذي يحتضن حياة البسطاء من الناس، قد يكون الإسقاط كامنٌ في اللاوعي، لذللك أتخيل أحياناً أنني في دمشق. وكأن لسان حالي يقول برلين وطن من لا وطن له